حسن عبدالوارث -
قبل أكثر من ربع قرن، كان ثمة صديق شاعر يحشو قصائده بالغموض حشواً، دون أن يحمل غموضه هذا شيئاً من جمال أو دلالة.. أو دلال!.. كان غموضاً لوجه الباري!
وحين كان صاحبنا يُسأل في هذا، كان يُجيب بأن هذه هي اللغة القادرة على مواكبة التحولات الثورية في المجتمع، وأن هذا هو القالب الشعري المناسب لعكس طبيعة الاعتمالات الجارية في بُنى الواقع المادي المتغير، وغير ذلك من الكلام الكبير الذي كنا -يومها- نهز رؤوسنا إعجاباً له برغم عدم فهمنا كلمة واحدة منه!!
ولم يكن صاحبنا يؤمن باعتقادي، واعتقاد كثيرين غيري، بأن أكثر من 80٪ من أهلنا أمّيُّون أبجدياً، وبأن أكثر من 90٪ أمّيُّون ثقافياً، وبأن 99.99 ٪ لا يقرأون قصائده، وأن قرأوها بالصدفة فإنهم لن يفهموها!!
لقد ظل يؤكد على ضرورة »كَنْس« كل التراث الأدبي والفكري السابق ووضعه في مزبلة التاريخ.. وظل يرى أن كل القوالب »التقليدية« في الشعر -بمعناها ومبناها ولغتها وصورها وتراكيبها- جزء من الموروث الثقافي المتخلّف!!
وحَدَثَ أن زار عدن يومها شاعر عربي شهير، كان صاحبنا يظن أنه مَثَلُه الأعلى في الشعر، فطار إليه بقصائده المتغامضة تلك، مبشّراً أياه بولادة »خير خَلَف« له يسير على خُطاه في أرض اليمن.
المهم أن الشاعر العربي الكبير أصيب بالرَّمد والقرحة بعد قراءته تلك القصائد.. وقبل أن يرحل عن البلاد نهائياً قال لي: قل لصاحبك ذاك أن ما احتوته قصائده ليس مكانها الشعر، بل كتب الفيزياء والكيمياء!!<
Wareth26@hotmail.com