إبراهيم ناصر الجرفي - يتضايق البعض عندما يسمع آراء مخالفة لرأيه وقناعاته الدينية أو الفكرية أو السياسية ، وقد يدفعه ذلك التضايق إلى إصدار الأحكام المجحفة ضدهم ، والتي قد تصل لحد القذف والاستهداف الشخصي والتجريح ، بل إن الأمر قد يصل عند بعض المتشددين والمتطرفين دينياً وايديولوجياً وفكرياً ومذهبياً لدرجة تكفير المخالفين لهم ، وإخراجهم من رحمة الله تعالى ، لمجرد مخالفتهم لهم في الرأي.. والحقيقة أن اختلاف البشر في الأفكار والآراء سُنة إلهية ، وظاهرة كونية ، ويجب على كل إنسان عاقل أن يؤمن بذلك ، ويتعامل مع الناس على هذا الأساس ، ويحترم آراءهم وأفكارهم.
والطريقة الوحيدة لتعديل أفكار الآخرين بما يتناسب مع أفكارنا وتوجهاتنا ، هي الحكمة والموعظة الحسنة والجدال والحوار بالتي هي أحسن ، عن طريق المنطق والعقل والفكر ، لإثبات صوابية أفكارنا ، في محاولة لإقناع الآخرين بها ، وهذه الوسائل الناجحة للحوار والنقاش الفكري مع الآخر الديني والحضاري والمذهبي والسياسي ، جاء بها المنهج الاسلامي ، وأمر المسلمين بالالتزام بها ، في حواراتهم ومناقشاتهم الفكرية ، وهو ما يجعل من الالتزام بآداب الحوار واحترام التعدد والتنوع واجباً من واجبات الدين ، وأي سلوك يتعارض مع ذلك فيه مخالفة للشرع الإسلامي.
وبذلك .. فإن أساليب التهجم على الآخرين ، بكل أنواعها من سب ، وشتم ، وتجريح ، وتكفير ، أثناء الحوار والنقاش والجدال الفكري ، هي أساليب العاجزين فكرياً ، والمختلين عقلياً ، والمفلسين ثقافياً والمتعصبين دينياً ومذهبياً وطائفياً ومناطقياً ، وهي أساليب يرفضها وينهى عنها المنهج الاسلامي ، كما أن تحويل النقاش حول فكرة معينة ، إلى استهداف شخصي سواء لصاحب هذه الفكرة أو أي شخص يدخل في نطاق الحوار ، يدل على العجز والافلاس الفكري والثقافي والحضاري ، والمؤلم والمحزن هو التهجم الشخصي على الأموات والغائبين غير القادرين على الدفاع عن أنفسهم ، من أجل ذلك علَّمنا الرسول عليه الصلاة والسلام بذكر محاسن الموتى وليس الإساءة لهم والتطاول عليهم ، والصحيح هو الرد على الفكرة محل النقاش بفكرة أخرى تنقضها شرعياً أو منطقياً أو عقلياً ، فالفكرة لا تنقضها ولا تهدمها إلا فكرة مثلها ، ولا يمكن للقوة ، أو البطش ، أو الاجبار ، أو الاكراه ، أو الضغط ، أن تقضي على الأفكار ، بل قد تساهم في توسعها وانتشارها ..
وبما أن العقيدة الدينية هي أفكار وآراء، فمن غير الممكن إقناع أحد بتلك الأفكار بالقوة والاكراه والاجبار ، كون الأفكار من أعمال العقل ، وأعمال العقل من الأمور الشخصية ، والتي لا يمكن للآخرين معرفتها ، من أجل ذلك جعل الاسلام موضوع اعتناق العقيدة مسألة اختيارية يجب أن تقوم على الاقتناع والحرية والرغبة الكاملة ، ونهى أشد النهي عن الاكراه والاجبار في مسألة العقيدة ، قال تعالى ((لا إكراه في الدين )).. وكذلك الأمر في كل الأمور ذات الصلة بالجوانب الفكرية ، بما فيها الفكر السياسي ، فإن الانتماء السياسي لأي حزب أو تيار سياسي ، يجب أن يتم عن طريق الإقناع بالحكمة ، والمنطق ، والعقل ، والحجة ، والبرامج والأدبيات.
وطالما أن ديننا أوجب علينا احترام إرادة الآخرين فيما يتعلق بالجانب العقائدي الأخروي ، فإنه من باب أولى علينا احترام إرادة الآخرين فيما يتعلق بأفكارهم الدنيوية ، وانتماءاتهم السياسية ، ويجب أن تظل الحكمة والجدال والحوار بالتي هي أحسن ، هي الوسيلة التي يجب أن نلتزم بها في كل حواراتنا ومناقشاتنا وخلافاتنا السياسية والدنيوية.. ويجب أن يظل احترامنا للتعدد والتنوع السياسي سبيلنا الأفضل في نظرتنا للمخالف لنا ، كجزء من معتقداتنا التي تجعل من هذا التنوع والتعدد والاختلاف سُنة من سُنن الله تعالى ، فنحن عندما نحترم ذلك التنوع والتعدد والاختلاف ، فإننا بذلك نؤكد إيماننا بسُنة من سُنن الله تعالى ، وإيماننا بسُنن الله تعالى هو جزء من إيماننا بعقيدتنا.
|